عربي

جدّة عارية… أن تُسلب مكانك وذاكرتك

أكثر من مليون ونصف مليون مواطن هجرتهم السلطات السعودية من أحياء مدينة جدة التاريخية، بموجب مشروع لـ«تطوير» تلك الأحياء، التي بدأت عملية إخلائها في 16 كانون الأول2021. عبر بوابة «أمانة جدة» التابعة لإمارة مكة، والتي اختارها ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، لإنفاذ مشروعه، جرى تحديد نحو 64 حيّاً تحت مسمى «العشوائيات»، تمهيداً لنسف مبانيها المشيدة منذ عشرات العقود. وهي مهمة أوكلت إلى شركة «جدة للتنمية والتطوير العمراني»، المعروفة اختصاراً بـ«JDURC»، المملوكة من «صندوق الاستثمارات العامة»، والتي حولت عبر الجرافات وآلات الردم مباني جدة القديمة إلى جبال من الركام أمام أعين أصحابها.

العالم – السعودية

يقول أحد المتضررين، إن «الكثير من الأحياء تحوي مراكز رسمية حكومية، وبيوتاتها حاصلة على الخدمات الأساسية من الدولة عبر البلدية، من مياه وكهرباء وخدمات مدفوعة الثمن عبر الضرائب، كما أن أصحابها يملكون صكوكا تثبت ملكيتهم، ولو أن هذه المنازل عشوائية كما تقول الدولة، ما كانت لتكون مملوكة بأوراق رسمية»، متسائلا: «هل يعقل أن تمنح الدولة صكوكا مصدقة على أراض عشوائية، وبعد ذلك تنقض على أهلها».

ويلفت متضرر آخر إلى أن عملية التهجير تسببت بمبيت العديد من العوائل في العراء وتحت الجسور العامة، كونها لم تجد بديلا لها، خصوصا تلك التي لم تكن تمتلك أصلا سوى المنزل الذي يؤويها أو مكان عملها، وهو ما دفعها إلى الذهاب نحو أطراف المدينة، حيث قطن بعضها في مستودعات، وحول بعضها الآخر السيارات إلى بيوت، فيما الأهالي الميسورون نسبيا اتجهوا إلى خيار الاستئجار الباهظ الثمن (يشترط دفع 90% من قيمة الإيجار مقدما).

حتى الآن، ردمت أمانة جدة منازل تنتشر على مساحة تفوق 31 مليون متر مربع، مقسمة على 37 حيا، بدعوى «الحفاظ على الأمن وملاحقة أوكار الإرهابيين»، وفق ما برر به أمين محافظة جدة، صالح التركي، العملية التي استهدفت أحياء غليل، بترومين، مدائن الفهد، القريات، المصفاة، الكندرة، العمارة، النزلة… وغيرها، فيما لا تزال قيد التنفيذ، وعنوانها الأبرز كلمة «إخلاء» التي يتم إلصاقها على البيوت المستهدفة، كما يجري حاليا في حي البوادي، قبل أن يبدأ الهدم.

يروي أحد المتضررين، في حديث إلى «الأخبار»، مراحل التنفيذ، موضحا أن أمانة جدة تعمد، ابتداء، إلى إنذار الأهالي بوجوب إخلاء منازلهم بشكل مستعجل، قبل أن تبدأ الضغط عليهم بقطع الكهرباء والخدمات، علما أن كل ذلك لم يستغرق أكثر من 24 ساعة في بعض الأحياء، كما في حي غليل، وهو ما لا يكفي حتى لاستيعاب الصدمة، فكيف بالعمل على إيجاد مأوى والانتقال إليه.

حتى الآن، ردمت أمانة جدة منازل تنتشر على مساحة تفوق 31 مليون متر مربع

وعلى رغم أن أمانة جدة أعلنت تجهيز 4781 وحدة سكنية سيتم تسليمها مع نهاية عام 2022 للمتضررين ممن يمتلكون صكوكا عقارية، غير أن هذا الرقم لا يغطي عدد سكان حي واحد من الأحياء التي هدمت. ويضاف إلى ما تقدم أن نحو 14.3% من بين من نسفت منازلهم، وفق استبيان أجرته «منظمة القسط لحقوق الإنسان»، لا يملكون أوراقا ثبوتية (مقابل 85.7% تتوفر لديهم هذه الأوراق بالفعل)؛ كون الدولة أوقفت منحها منذ عشرات السنين في بعض المناطق، فيما يبدو الحصول عليها الآن شبه مستحيل.

وبحسب الاستبيان نفسه، والذي أظهر أن عمر السكن في الأحياء المدمرة يصل إلى أكثر من ستة عقود، فإن «أكثر من 91% من المجيبين تعرضت عقاراتهم السكنية أو التجارية للهدم، و80% أشاروا إلى أن العقار ملك، و20% مستأجرون أو كانوا مستأجرين». وفي ما يتعلق بحجم العائلة، راوحت الإجابات ما بين فردين و24 فردا، بمعدل 8.12 أفراد لكل أسرة.

يصف الباحث أليكس شمس، من جامعة شيكاغو، ما يجري بأنه «مهزلة ذات أبعاد هائلة»، مستهجنا «هدم هذه المدينة بما تحمله من تنوع تاريخي، من أجل بناء مشروع حكومي يحوي شققا وفنادق فاخرة»، عادا ذلك «تجريفا لتاريخ المدينة القديمة وتطهيرا لمناظرها».

وإلى اليوم، لا تزال مواقع التواصل الاجتماعي، وخصوصا منها «تويتر»، تضج بالتفاعل تحت وسم «#هدد_جدة»، حيث تجري مشاركة مقاطع عمليات الإخلاء، وتوثيق لحظات توديع الأهالي لمنازلهم وحواريهم، وتداول تسجيلات مصورة لمساحات هائلة جرت تسوية مبانيها بالأرض، إلى حد يبعث على الاعتقاد بأن ثمة حربا مرت من هنا. حرب من نوع آخر، لم تأخذ استراحة إلا في خلال شهر رمضان، لتعود وتتجدد وتستمر حتى آب المقبل، على الرغم من ظهور بوادر أزمة عقارية في المدينة، تمثلت في ارتفاع أسعار العقارات بشكل مفاجئ وكبير.

يشار إلى أنه في عام 2007، جرى اقتراح هدم ما تسمى «عشوائيات جدة» للمرة الأولى، غير أن ذلك لم يجد سبيله إلى التنفيذ بفعل قلق السلطة من ردة فعل السكان. وفي وقت كانت تتعمق فيه حالة الفقر وهشاشة البنى التحتية في تلك المناطق خلال العقود الماضية، كان يتشكل حس جماعي بالاندماج والانتماء إلى المكان، هو بالضبط ما يجري اليوم تهشيمه بمعول «رؤية 2030».

المصدر: جريدة الأخبار

المصدر : قناة العالم .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى