عالمي

ماكرون.. من رئيس دولة عظمى إلى مبعوث خاص

هكذا ومن دون مقدمات تأججت العواطف الجياشة للأم الحنون فحطت طائرة الرئيس الفرنسي في مطار بيروت بعد التفجير الذي عصف بالمرفأ وخلف دماراً غير مسبوق، وسرعان ما تناسى الضيف الزائر كل ما يواجهه في بلاده، فتحول من رئيس يقذفه الفرنسيون بالبندورة والبيض إلى طاووس يستقبل بالأحضان رغم انتشار الكورونا.

العالم-لبنان

وتعالت بعض الأصوات المطالبة بإعادة زمن الانتداب الفرنسي، ولعل حرارة الاستقبال والدعم الأمريكي المسبق الذي حمله معه إيمانويل ماكرون قد دفعه إلى التعامل بهيئة المندوب السامي الجديد والمخلص الذي يملك كل ما يحتاجه لبنان المنكوب للخروج من محنته، وفي الوقت نفسه ينذر بالويل والثبور وعظائم الأمور إن لم يذعن اللبنانيون للإملاءات المدونة والمبوبة وفق تعليمات من أرسله كمبعوث خاص للإدارة الأمريكية التي لا تتخلى عن الاسترشاد والاهتداء بالبوصلة الصهيونية في كل ما يتعلق بالمنطقة، وهكذا اصطبغ خطاب المبعوث المفوض بلهجة الأمر والنهي، وتحديد المهل الزمنية التي على الجميع التقيد التام بها ، وإلا!!!!.

من حق المتابع العادي المهتم بتطور الأحداث وتداعياتها أن يبحث عن مخرج من التناقضات التي تفرض ذاتها لفهم حقيقة ما يجري ، وهذا يستدعي طرح مجموعة من التساؤلات المشروعة، ومنها:

ـ هل باريس حريصة فعلاً على إنقاذ لبنان؟ وما سر هذه الغيرة شبه الكونية على تقديم المساعدات، مع تشديد جميع المتبرعين على تسليم المساعدات المقدمة لجمعيات غير حكومية، وكفّ يد الدولة اللبنانية عن توزيعها؟ وهل من علاقة بين الحرائق التي طالت المرفأ بعد تفجيره، وبين ما يخطط للبنان والمنطقة في الكواليس والغرف المظلمة؟

ـ كيف يمكن فهم خطاب ماكرون الهادئ تجاه حزب الله واعترافه بأنه جزء من الحكومة اللبنانية، وليس هو من أوصله إلى الحكومة، ولا من أعطاه هذا الدور مع رفع عدوانية الموقف الأمريكي، وفرض عقوبات جديد على شخصيات لبنانية من بينها المعاون السياسي لرئيس مجلس النواب؟ وهل يجب النظر إلى هذا الأمر كتناقض في المواقف، أم أنه يؤكد اعتماد سياسة العصا والجزرة، وأن دور ماكرون محصور بتنفيذ المهمة التي كلف بها، والتي نسي منظموها أو تناسوا أن الجزرة تغري الصغار، والعصا تخيف العبيد، وكلاهما خارج الصلاحية لدى حزب الله وبقية أقطاب محور المقاومة التي تدرك كيف يحدد السمت باتجاه الهدف، وضبط توقيت التحرك، مع الأخذ بالحسبان لجميع السيناريوهات المحتملة، وإمكانية التعامل مع أي منها؟.

ـ ماذا يعني أن يتجه ماكرون بعد زيارة بيروت إلى بغداد؟ وهل الثقل الجيوبوليتكي الفعلي لفرنسا يؤهلها للقيام بمثل هذا الحراك النوعي ، أم أن الأمر لا يعدو أن يكون تكليفاً بمهمة محددة، ونقل رسائل أمريكية خاصة في وقت أضحت به واشنطن مشغولة بصراع الديكة على حلبة الانتخابات الرئاسية، وما تتضمنه من تسفيه كلٍ من ترامب وبايدن للآخر، وكأن وصول هذا أو ذاك إلى البيت الأبيض مقدمة لانحسار الهيبة الأمريكية ـ وإلى غير رجعة ـ عن العالم, إلى درجة يتساءل فيها المتابع: هل كلا المرشحين أمريكي، أم أن أحدهما من دولة أخرى، أو من كوكب آخر؟.

ـ ما سر اكتظاظ المياه اللبنانية بالبوارج الحربية والقطع البحرية العسكرية، إذا كانت الغاية تنحصر في الوقوف إلى جانب لبنان المنكوب وتقديم المساعدات الإنسانية؟ وهل من رابط بين هذا الوجود العسكري البحري غير المسبوق وبين التوتر التركي اليوناني بعد إصرار أردوغان على ركوب الرأس، وتحدي الجميع بعضلات عسكرية يدرك أردوغان قبل غيره أنها محقونة بالبوتكس المغشوش؟

ـ هل يمكن فصل الحراك الفرنسي وغيره عن الاستغاثات التي يطلقها الكيان الصهيوني، وتبرم قادته العسكريين والسياسيين من التعب والإرهاق الذي أصاب الجميع بعد أن فرض عليهم سيد المقاومة سماحة السيد حسن نصر الله الوقوف على رجل ونصف، وإخفاق مسرحياتهم الهزيلة وتمثيلياتهم الممجوجة لتصوير أن الانتقام قد حدث، والتمني على المقاومة بتصديق تلك الروايات التي تحولت إلى موضع سخرية من الداخل الإسرائيلي ذاته قبل غيره، مع إصرار المقاومة على تطبيق المعادلة التي تنص على أن التسبب بموت أي مقاوم سيقابله بالضرورة والحتمية قتل جنود إسرائيليين.

ـ لماذا يتم الإعلان في هذه الظروف المعقدة والمتشابكة والضبابية عن انطلاق حفلات إشهار الزواج الصهيوني الخليجي بعد سنوات من المساكنة التي لا يعلم إلا الله كم أنجبت من أجنة ومواليد بشكل غير شرعي؟ وما هي الحاجة الفعلية عن الإعلان عما تتم ممارسته فعلياً منذ سنوات، لا بل منذ عقود؟.

عشرات التساؤلات الأخرى التي يجد المتابع نفسه في مواجهتها عند مقاربة ما يحدث في المنطقة ككل، وليس فقط على الساحة اللبنانية، ومن السذاجة تبسيط الأمور، والتعامل معها بالقطعة، فكل حلقة مرتبط بما قبلها وما بعد ها، وبما فوقها وتحتها وعن يمينها وشمالها، والقراءة الموضوعية وفق أسس التحليل السياسي البعيد عن العواطف الشخصية تحمل العديد من المؤشرات، ومنها:

  • المنطقة برمتها على صفيح يقترب من حالة الذوبان ـ وليس فقط التسخين ـ ولا أحد يستطيع التنبؤ بما تؤول إليه الأمور إذا لم يتم منع الانحدار نحو الهاوية.
  • على الرغم من العربدة غير المسبوقة لإدارة ترامب، والظهور بمظهر البلطجي الذي لا يعنيه قانون دولي، ولا تثنيه عهود أو مواثيق عن ارتكاب أفظع الجرائم حتى بحق المواطنين الأمريكيين فإن الإخفاقات النوعية المتتالية في التعامل مع العديد من الملفات الداخلية، وبخاصة مع تفشي فيروس كورونا، إضافة إلى ارتفاع حدة العنصرية في الداخل الأمريكي قد تدفع ترامب لمحاولة تصدير أزمات الداخل بتفجيرات تطال هذه المنطقة أو تلك، وقد تكون مؤجلة إلى أن يضمن مغادرة المنطقة بأقل خسائر ممكنة.
  • وضع الداخل في الكيان الصهيوني يزداد احتقاناً إلى درجة يجد فيها نتنياهو نفسه مرغماً على المناورة لتأجيل إحالته إلى المحاكم، وفي ضوء هذا يمكن فهم ما يسمى فورة التطبيع الجديدة وتقديمها كإنجازات للتغطية على العجز المتفاقم، والخوف من المجهول الذي قد يفرض في نهاية المطاف على نتنياهو الهروب إلى الأمام ومحاولة تصدير الأزمة للخارج.
  • الوضع الاقتصادي الضاغط والمفروض على أقطاب محور المقاومة جراء إصرار من الإدارة الأمريكية قد يؤدي إلى خلط الأوراق، وإلى قلب الطاولة فوق رؤوس جميع اللاعبين، ومن غير المستبعد أن يكون حوض ” الصبر الاستراتيجي” اقترب من الامتلاء، وعندها سيفيض بغض النظر عن النتائج المحتملة، وقد يكون موعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية بعيداً بعض الشيء، فهل ينتبه أصحاب الرؤوس الحامية لخطورة ذلك ويقدمون على تفريغ بعض المخزون من ضغوطات قد تولد الانفجار وبتوقيت قد لا يتناسب ومصالح البيت الأبيض؟ وبخاصة أن الساحات المهيأة لتكون مسرح عمليات للانفجار متعددة ومنتشرة على مساحات واسعة، وجميعها تشكل مصالح حيوية أمريكية؟.

خلاصة:

من كل ما تقدم وبعيداً عن نظرية المؤامرة فإن النظر بموضوعية علمية تعتمد أسس التحليل الجيوستراتيجي للأحداث وتطوراتها وتداعياتها تثبت أن ما قام ويقوم به إيمانويل ماكرون لا يخرج عن كونه مهمة مسندة إليه، وليس أمامه إلا القيام بتنفيذها، وهذا لا يعني قط تحرك عاطفة الأم الحنون تجاه لبنان، ولا يستطيع الرئيس الفرنسي أو غيره الاضطلاع بهكذا دور إلا وفق ما تم تخطيطه واعتماده لأهداف تخدم مصالح الإدارة الأمريكية التي لا تتورع عن إذلال أتباعها وكأن شيئاً لم يكن، ولنا من حالة الارتباك التي أصابت الرئيس الصربي عندما أعلن ترامب أن صربيا قررت نقل سفارتها إلى القدس فظهر الارتباك على الرئيس الصربي الذي بدا وكأنه لا يعرف على مضمون ما وقع عليه، ومثل هذه الحالة قد تتكرر بشكل عفوي أو متعمد مع الرئيس الفرنسي أو غيره عندما يتعلق الأمر بحكومة الظل العالمية التي تمد أذرعها الأخطبوطية في شتى أنحاء المعمورة، وعندما تُذْكَر حكومة الظل تنبعث تلقائياً رائحة نفَّاذة تحمل بصمة الاستخبارات الإنكليزية الأكثر خبرة في إثارة الفتن وإشعال الحروب وحصد النتائج بتقديم النفس كمخلص ومنقذ وحيد يملك الترياق السحري ويعلن عنه في الوقت المناسب.

*د. حسن أحمد حسن باحث سوري متخصص بالجيوبولتيك والدراسات الاستراتيجية

المصدر : قناة العالم .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى