عربي

حسن نافعة في أول حوار بعد خروجه من السجن وما قاله عن “كورونا”

قال حسن نافعة في حوار له مع جريدة رأي اليوم: “مصر منشطرة نصفين والقابعون وراء غياهب الظلمات هم الأقرب للتعبير عن ضمير الوطن وأحلامه.. هذه هي الأسئلة التي وجهها لي الإسلاميون الذين التقيت بهم وشبابهم أكثر مرونة وتفتحا وقدرة على الاستيعاب والفهم من شيوخهم.. امتناني لهدي جمال عبد الناصر بلا حدود”.

العالم_مصر

قال حسن نافعة أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة إن تجربة سجنه كتبت صفحة جديدة في حياته ستظل محفورة عميقا في تلافيف الذاكرة لفترة طويلة قادمة، مشيرا الى أنه لم يسبق له أن وطأت قدمه أرض قسم من أقسام الشرطة أو مبنى محكمة من المحاكم، لا بصفته شاكيا ولا مشكوا في حقه.

وأضاف نافعة في حوار خص به “رأي اليوم” أن مصر بدت له من خلال تجربة الاعتقال والسجن وكأنها منشطرة إلى نصفين: نصف معتقل داخل السجون ومعزول عن العالم والنصف الآخر خارج السجون يعيش حياة تختلف في طبيعتها عن كل ما مر به من قبل، مشيرا الى أنه يخيل إلىه أن القابعين داخل السجن هم الأقرب للتعبير عن ضمير الوطن وعن أحلامه.

وردا على سؤال عن تأثير ” كورونا ” على العالم، قال د. نافعة إن تأثير هذا الوباء سيكون شاملا ولن يقتصر على النظم السلطوية أو على الدول الفقيرة وإنما سيتأثر به الجميع، مؤكدا أن تأثير الوباء على موازين القوى العالمية وعلى هيكل النظام الدولي لن يقل عن تأثير الحربين العالميتين الأولى والثانية.

– هل هذه أول تجربة اعتقال وحبس تعرضت لها، ولماذا الآن بالذات؟

نعم هذه أول تجربة من نوعها بالنسبة لي. فقد جرى اعتقالي لأول مرة في حياتي التي امتدت بفضل الله إلى أكثر من 73 عاما حتى الآن وذلك في 24 سبتمبر 2019، وفي اليوم التالي تقرر حبسي احتياطيا على ذمة التحقيق في القضية 488، ومكثت في ليمان طرة حتى 20 مارس 2020.

لذا أعتقد أن هذه التجربة كتبت صفحة جديدة في حياتي ستظل محفورة عميقا في تلافيف ذاكرتي لفترة طويلة قادمة، خاصة وأنه لم يسبق لي أن وطأت قدماي أرض قسم من أقسام الشرطة أو مبنى محكمة من المحاكم، لا بصفتي شاكيا ولا بصفتي مشكوا في حقه. أما عن أسباب اعتقالي فهذا سؤال ينبغي أن يوجه إلى الجهة التي اتخذت قرار الاعتقال، وهنا ينبغي أن نميز بين الأسباب المعلنة رسميا والأسباب الحقيقية.

فقد وجهت إلي جملة اتهامات منها: مشاركة جماعة إرهابية في تحقيق أغراضها، واستخدام مواقع التواصل الاجتماعي لنشر أخبار وإشاعات كاذبة، وتلقي أموال من الخارج بغرض الإضرار بالمصلحة الوطنية..الخ، وجميعها اتهامات لا أساس لها من الصحة ولا يوجد دليل واحد على صحة أي منها. وقد تم الإفراج عني رغم اعتقالي لمدة ستة أشهر، ولكن بلا كفالة أو غرامة مالية والاكتفاء بضمان محل إقامتي فقط، بل ودون أن أقدم للمحاكمة أو تتسم التحقيقات التي جرت معي بأي نوع من المصداقية.

أما عن الأسباب الحقيقية، فالشواهد تدل، من وجهة نظري على الأقل، على أنني اعتقلت وسجنت لأسباب سياسية. ولأنني لست عضوا في أي حزب أو حركة سياسية، وليس لي مهنة أخرى سوى البحث والتدريس والكتابة في مجال العلوم السياسية، فمن الواضح أن تهتمي الحقيقية تتعلق في الواقع بممارسة حرية الرأي رغم أنه حق طبيعي واساسي يكفله القانون والدستور. ومن الجدير بالذكر أن الجهة التي أصدرت أمر اعتقالي وحبسي احتياطيا هي نفس الجهة التي قررت الافراج عني.

من الطبيعي، في سياق كهذا، أن يثور التساؤل: لماذا الآن؟ خاصة وأنني أمارس الكتابة والتعبير عن الرأي منذ أربعين عاما بدون انقطاع. والإجابة على هذا السؤال بسيطة جدا وتعود¸في تقدريري، إلى الاختلاف الجوهري بين النظام الذي يحكم مصر الآن وكافة الأنظمة السابقة التي تعاقبت على حكم هذا البلد الكبير منذ حصوله على الاستقلال.

إذ لا يكفي أن يرتدي الحاكم زيا عسكريا أو ينتمي إلى المؤسسة العسكرية ليصبح شبيها بأقرانه ممن ارتدوا نفس الزي أو انتموا لنفس المؤسسة، فمن الواضح أن الفرق كبير جدا بين عهود عبد الناصر والسادات ومبارك وطنطاوي. ففي ظل هؤلاء، كان هناك دائما هامش ما من الحريات، يضيق أو يتسع حسب الأحوال، أما الآن فقد تلاشى هذا الهامش تماما في ظل الحكم الحالي ولم يعد له وجود على الإطلاق.

ويلاحظ هنا أنه سبق لجميع الأنظمة السابقة على نظام الحكم الحالي في مصر أن تصادمت، في مرحلة أو أخرى، مع هذه القوة أو الحركة السياسية أو تلك، لكنها أبدا لم تتصادم مع الجميع أو مع كل رأي معارض، كما يفعل النظام الحالي. فهذا النظام، والذي ادعي في البداية أنه جاء لينقذ مصر من حكم جماعة الإخوان ما لبث أن دخل في مواجهة شاملة مع كل القوى والتيارات السياسية والفكرية ومع كل رأي معارض.

دليلنا على ذلك أنه لم يتردد في اعتقال رئيس الأركان الأسبق للجيش المصري لمجرد أنه عبر عن رغبته في الترشح للانتخابات الرئاسية، وبوسع من يعتقل رئيس أركان الجيش، لمجرد أنه عبر عن رغبته للمنافسة في حلبة السياسة، أن يعتقل أي شخص آخر دون إبداء الأسباب.

كيف كنت تقضي أوقاتك في السجن؟

حين يكون الإنسان محبوسا في زنزانة صغيرة لا يزيد عرضها على مترين تقريبا وطولها لا يزيد على ثلاثة أمتار، ويشاركه في هذا الحيز الخانق شخصان آخران، تصبح خياراته محدودة ويميل في أغلب الأوقات إلى الانكفاء على الذات والنبش في أعماق الذكريات.

كان هذا هو حالي في العنبر رقم واحد في سجن ليمان طرة خلال الشهور الست التي قضيتها هناك. ولأنه كانت لي معرفة مسبقة برفيقي الزنزانة، حازم حسني وخالد داوود، فقد أصبحت الحياة، رغم القهر وفقدان الحرية، قابلة نسبيا للاحتمال. من المفهوم طبعا أنه لم يكن يسمح لأي منا بالخروج من تلك الزنزانة إلا للتريض لمدة نصف ساعة يوميا (تمت زيادتها في مرحلة لاحقة إلى ساعة)، أو للتوجه إلى المستشفى، أو للانتقال في عربة “ترحيلات” إلى مجمع النيابات في منطقة التجمع الخامس (حين يحين موعد تجديد الحبس كل أسبوعين)، أي أنني كنت أقضي 23 ساعة يوميا في صحبة رفيقي داخل حيز لا تزيد مساحته على ستة أمتار مربعة، الأمر الذي كان يفرض علي توزيع هذا الوقت الطويل بطريقة لا تفضي إلى الجنون.

وبخلاف الوقت الذي كنا نقضيه في النوم أو في تناول الطعام أو في قضاء الحاجات الأساسية والاغتسال، كنا نتسلى بالانشغال في أحاديث متنوعة، شخصية أو سياسية، أو في مناقشات فكرية، ولاحقا في قراءة الكتب غير السياسية بعد أن سمح لنا بالحصول عليها، وبعد حوالي خمسة أشهر من بداية الحبس كان بمقدورنا أن نستمع أحيانا إلى الموسيقى والأغاني ونشرات الأخبار عبر راديو صغير سمح لنا باقتنائه، أما الصحف فلم يسمح لنا بها رسميا أبدا، ومع ذلك فقد كان باستطعنا في مرحلة متأخرة أن نقرأ الأهرام بانتظام.

ما الشيء الذي كان دائم الإلحاح على فكرك؟

كنت دائم التوقف عند المحطات المختلفة لمسيرة حياتي، محاولا تأملها ومراجعة ما اتخذته من قرارات مصيرية خلالها، وما إذا كانت هذه القرارات تبدو لي اليوم صوابا أم خطأ، وما إذا كان هناك ما يستحق أن أندم عليه. فحين يجد الانسان نفسه مقطوع الصلة بالعالم الخارجي وتلاحقه اتهامات لا أساس لها من الصحة تصل إلى حد الاتهام بالخيانة العظمى وليس لديه أي فرصة حقيقية للدفاع عن نفسه أمام قضاء عادل ومستقل، من الطبيعي أن تتجاذبه وهو محشور في هذا الحيز الخانق مشاعر متناقضة، ويصبح لديه ميل غريزي لاستعراض شريط حياته منذ لحظة الميلاد وحتى لحظة الاعتقال والحبس.

وللتعمق في فحص فحوى هذا الشريط، حين كانت تجتاحني تلك الحالة التأملية، كنت ألجأ عادة إلى حيلة بسيطة يغلب عليها الطابع الأكاديمي وهو تصنيف وتقسيم الذكريات المتدفقة بلا انقطاع إلى مراحل زمنية تصلح للاستعراض المتسلل في حلقات: مرحلة النشأة والطفولة في ريف إحدى قرى محافظة البحيرة، مرحلة الدراسة في مدرسة شبراخيت الاعدادية والثانوية، مرحلة الدراسة الجامعية والحياة المستقلة لأول مرة في مدينة الاسكندرية، مرحلة الدراسات العليا في جامعة السوربون، معركة التعيين في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، علاقات المهنة داخل الوسط الجامعي، تجربة الحياة في الأردن حين عملت عناك كأمين عام لمنتدى الفكر العربي، تجربة العمل العام وما نطوى عليه من تفاعل مع شرائح النخب والتيارات السياسية والفكرية المختلفة، خاصة من خلال تجربة الكتابة والمشاركة في الأنشطة الثقافية والسياسية المتنوعة..الخ.

لحظة الاعتقال

لا أخفي عليك أخي العزيز أنني كنا أتوقف مرارا وتكرارا أمام لحظة اعتقالي حين كانت الساعة تقترب من الخامسة من مساء يوم 24 سبتمبر الماضي. كنت في تلك اللحظة أقود سيارتي عائدا إلى منزلي عقب يوم حافل قضيته في كلية الاقتصاد بجامعة القاهرة بعد أن فرغت من محاضرات ذلك اليوم، ولم يدر بخلدي أبدا أنني سأتعرض لما تعرضت له.

فقد اعترضت طريقي فجأة سيارتان إحداهما من الأمام والثانية من الخلف ونزل منهما رجال مفتولو العضلات أجبروني على التوقف وسحبوني خارج سيارتي بالقوة، وتم اقتيادي معصوب العينين إلى مكان مجهول قضيت فيه ليلة مخيفة وكالحة السواد قبل أن يتم اقتيادي في اليوم التالي إلى مبنى نيابة أمن الدولة في التجمع الخامس. ولأن ما جرى لي كان أقرب إلى عملية اختطاف وسطو مسلح منها إلى عملية اعتقال عادية، بينما كان يمكن استدعائي للتحقيق في مبنى النيابة بطريقة أكثر تحضرا، ووجهت إلى في تلك الليلة عبارات لا تليق بمقامي أو بسني، قد كان من الطبيعي أن أتوقف بالتأمل عند هذه اللحظة الفارقة في حياتي، محاولا فهم أسباب ما جرى وتداعياته، واستشراف ما قد يخبئه المستقبل بالنسبة لي.

كانت المرحلة الأولى من الحياة في تلك الزنزانة الصغيرة شديدة الصعوبة وكثيرا ما كنت أسائل نفسي عما إذا كان بوسعي تحمل مشاقها. فبعد أيام قليلة أحسست فجأة بدوار لم يسبق أن شعرت بمثله من قبل.

ورغم أن هذه الحالة لم تستغرق سوى ثوان معدودة، فقد انتابتني في أعقابها لحظة هيجان عاطفي وتملكني فجأة شعور غامض بأن حياتي يمكن أن تنتهي في تلك الغرفة الصغيرة مقطوعة الصلة بالعالم الخارجي. وحين تكررت الحالة نفسها مرة ثانية بعد حوالي شهرين، طلب زملائي نقلي إلى مستشفى السجن، وهناك اكتشفت ليس فقط محدودية الإمكانات المتاحة، ولكن أيضا درجة من الإهمال لا يمكن تصورها.

فقد أصبت بالرعب حين وجدت أن سجينا آخر مريض له بعض الخبرة في التمريض هو الشخص الوحيد المتاح في ذلك الوقت لقياس الضغط وسحب عينة الدم وعمل بعض الاسعافات الأولية!!. لذا رأيت أن من واجبي إطلاع زوجتي في أول زيارة قادمة على ما حدث تفصيلا، حتى تكون على بينة مما يجري وتتمكن من متابعة حالتي الصحية، وقد كان . ولم يكن حديثي لها سرا بيننا، ولكنه كان بصوت عال، و في حضور مندوب الأمن الوطني كالمعتاد في كل زيارة، والذي بدا عليه الانزعاج مما يسمع، وأظن أنه كان لهذه الزيارة تأثير كبير حيث تغيرت الأحوال كثيرا بعدها.

من كان مقربا منك في السجن، وفيمَ كنتم تتحاورون؟

حين يخوض الانسان تجربة من هذا النوع، يتحول رفاق الزنزانة بحكم الأمر الواقع إلى عائلة صغيرة ورفاق العنبر إلى عائلة كبيرة، وتصبح الزنزانة والعنبر هما آفاق وحدود العالم الجديد الذي ينبغي التأقلم معه.

ومن الطبيعي في وضع كهذا أن تختلف العلاقة بين أفراد العائلة الصغيرة المكونة من رفاق الزنزانة عن العلاقة بين أفراد العائلة الكبيرة المكونة من رفاق العنبر. ففي الزنزانة كنا ثلاثة أفراد مجبرين على العيش معا داخل حيز خانق، وكان علينا بالتالي أن نعثر على قواسم مشتركة لضبط إيقاع الحياة داخل هذا الحيز بطريقة تتيح لكل فرد منا ممارسة وظائفه الحيوية ونشاطه الاعتيادي اليومي، من أكل وشرب ونوم واغتسال ومطالعة، دون احتكاك أو تعارض في الرغبات، ولم تكن تلك بالمهمة السهلة، فقد احتاجت إلى حكمة وإلى تنازلات متبادلة من الجميع.

ورغم خلافات صغيرة كانت تنشب بيننا من حين إلى آخر، إلا أنه كان بالإمكان السيطرة عليها بسرعة، وأظن أن علاقة الصداقة التي تجمع حاليا بيني وبين زميلي أصبحت عند مغادرتي لهذا المكان الكئيب أقوى مما كانت عليه عند دخولي إليه. أما العلاقة بين أفراد العنبر الواحد، والذي يضم 16 زنزانة يقيم بها حوالي 40 سجينا، فلا بد أن تكون من طبيعة مختلفة، خاصة وأننا لم نكن نراهم مجتمعين وإنما نتبادل الحديث مع بعضهم وبشكل فردي إبان فترة التريض.

وهنا يتعين التمييز بين نزلاء العنبر من “السياسيين”، وجميعهم كانوا مثلنا من المحبوسين احتياطيا على ذمة التحقيق ويرتدون الزي الأبيض، والنزلاء “الجنائيين”، وجميعهم من المحكوم عليهم في قضايا متنوعة ولمدد مختلفة تتراوح بين ثلاث سنوات والمؤبد، ويرتدون الزي الأزرق.

وبعد وصولنا إلى هذا المكان اكتشفنا وجود كل من: إبراهيم الدراوي، الصحفي المتهم بالتخابر لصالح حماس، وكان يشغل زنزانة منفردة لكنه كان يتهيأ في الوقت نفسه للمغادرة بعد صدور قرار بالإفراج عنه، وكمال خليل، المناضل اليساري المعروف الذي كان قد ألقي القبض عليه قبلنا بايام معدودة وكان يشغل بدوره زنزانة منفردة، بالإضافة إلى ثلاثة آخرين من المتهمين في “قضية الأمل”، علاء وكريم ومجدي، وكان يقيمون مثلنا في زنزانة واحدة، وبعد حولي ثلاثة أشهر انضم إلينا كل من: زياد العليمي وحسام مؤنس وهشام فؤاد، المتهمين بدورهم في “قضية الأمل”، وكانوا يقيمون في عنبر آخر ثم نقلوا إلى عنبرنا بعد أن تهدمت الزنزانة الأصلية التي كانوا يقيمون فيها بسبب الأمطار ونزلوا في الزنزانة المجاورة لنا مباشرة.

أما بقية نزلاء العنبر فكانوا من المحبوسين في قضايا جنائية، وكان معظمهم من الضباط و المجندين كما كان من بينهم قضاة ووكلاء نيابة بل وبعض المشاهير.

كنا أحيانا نحسد الجنائيين لأن أوضاعهم كانت أفضل منا نسبيا، حيث كان يسمح لهم بساعات أطول للتريض وبالحصول على معظم الأدوات والأجهزة التي يحتاجونها، بما في ذلك أدوات المطبخ والأجهزة الكهربائية والتليفزيون والراديو والصحف. تجدر الإشارة هنا إلى أن تبادل الحديث بين سجناء العنبر الواحد، خاصة بين السياسيين والجنائيين، كان ممنوعا منعا باتا من الناحية الرسمية، ولم يكن يسمح للسياسيين أن يتريضوا معا، حيث يقتصر التريض الجماعي على نزلاء كل زنزانة على حدة، وفي أوقات متباينة، بينما كان يسمح لجميع الجنائيين بالتريض معا في وقت واحد.

ومع ذلك يجب الانتباه إلى أن التعليمات الرسمية شيء وما يجري على أرض الواقع شيء آخر. فمن الناحية العملية كان بإمكان الجميع تبادل الحديث، ولكن لأوقات قصيرة، خاصة إبان فترات التريض. أما الحوارات السياسية المطولة فلم تكن ممكنة إلا بين نزلاء الزنزانة الواحدة إو بين نزلاء السجون المختلفة من السياسيين الذين يتصادف وجودهم في نفس “الحبسخانة” أيام العرض على نيابة أمن الدولة أو على غرف المشورة.

هل التقيتم في السجن بنزلاء من الإسلاميين، وهل حدثت مناوشات بينكما؟

لم يكن في “عنبرنا” نزلاء من الإسلاميين، سواء من المحبوسين احتياطيا أو من المحكوم عليهم. ولكنني كثيرا ما تقابلت مع بعضهم مصادفة وأنا في طريقي إلى المستشفي أو إلى المكان المخصص للقاء الزائرين.

ويجب أن يكون مفهوما أن الحوارات السياسية ليست فقط ممنوعة منعا باتا وإنما هي أيضا غير ممكنة داخل السجون، اللهم إلا بين نزلاء الزنزانة الواحدة، سواء كانت صغيرة الحجم تكفي بالكاد لثلاثة أشخاص كحد أقصى أو من النوع الكبير الذي قد يأخذ أحيانا شكل عنابر تتسع لأعداد تتراوح بين 18-40 سجينا.

فنزلاء السجون من السياسيين يخضعون لمراقبة مجهرية صارمة من جانب رجال أمن الدولة. هذا لا يعني انتفاء فرص الحوار بين المسجونين السياسيين، لكن ذلك يتم عادة داخل “الحبسخانة” أيام تجديد الحبس، وبالتحيد في فترة الانتظار قبل العرض على نيابة أمن الدولة أو على غرف المشورة، كما سبقت الإشارة.

ولأن الانتظار داخل “الحبسخانات” قد يستغرق نهارا بأكمله، وأحيانا جزء من الليل أيضا، فقد تمتد الحوارات، حين تبدأ، لساعات طويلة. وفيما يتعلق بي فقد التقيت في”الحبسخانة” بالعديد من المعتقلين السياسيين، الاسلاميين منهم والعلمانيين، عشر مرات على الأقل، منهم تسع مرات عند العرض على نيابة أمن الدولة في التجمع الخامس، ومرة واحدة عند العرض على غرفة المشورة في معهد أمناء الشرطة في طرة.

ولا يتسع المقام هنا لذكر اسماء كل من قابلتهم من الإسلاميين، ويكفي أن أذكر هنا أنني التقيت عدة مرات، على سبيل المثال، بجهاد الحداد في التجمع الخامس، ومرة واحدة بالدكتور عبد المنعم أبو الفتوح في معهد أمناء الشرطة. وكثيرا ما كان الحوار الذي جري مع العديد منهم، سواء بشكل فردي أو مع مجموعات مختلفة صغيرة وكبيرة، يتشعب ويتفرع إلى قضايا عديدة بعضها يتعلق بالماضي، خاصة حول ما جرى لثورة يناير وكيف ولماذا أجهضت هذه الثورة العظيمة وعلى من تقع مسؤولية الفشل، وحول ما جرى في يونيو وما إذا كان يعد ثورة أم انتفاضة أم انقلاب عسكري، وكانت هناك استفسارات كثيرة حول مواقفي وأسباب تأييدي ليس فقط لما جرى في 30 يونيو وإنما أيضا وعلى وجه الخصوص لما جرى في 3 يوليو، وكثيرا ما كان البعض يتساءل صراحة حول الأسباب التي أدت غضب النظام الحالي علي بعد أن كنت في رأيهم من أشد مؤيديه ولماذا قام باعتقالي وحبسي في هذا التوقيت بالذات وما دلالة ذلك؟.

أما موضوعات الحوار الأخرى الآخر فكانت تتعلق بالمستقبل وتدور غالبا حول طبيعة النظام الحالي وما إذا كان قابلا للبقاء والاستمرار، ومعنى “الاصلاح السياسي” الذي يتحدث عنه بعض المقربين من هذا النظام وأفق التغيير في المستقبل واحتمالات حدوث “انفراجة سياسية” ..الخ.

ولا يتسع المقام هنا للحديث تفصيلا عن المناخ الذي كان يجري فيه هذا النوع من الحوار، لكن بوسعي أن أقول أنه اتسم في البداية بقدر من الحدة وربما سوء الظن والميل لتوجيه اللوم وأحيانا الاتهامات، ثم راحت نغمة الحوار تهدأ تدريجيا مع الشرح والتفسير والتذكير بحقيقة المواقف التي يبدو أن البعض نساها أو تناساها وأحيانا حاول تشويهها متعمدا، وبوسعي أن أقول ايضا أنه لم يحدث أبدا أي تجاوز أو تطاول إبان جلسات الحوار غير المخططة أو غير المقصودة هذه.

وعلى اي حال فقد خرجت منها بمجموعة من الانطباعات العامة، حيث بدا لي شباب الإسلاميين أكثر مرونة وتفتحا وقدرة على الاستيعاب والفهم من شيوخهم، كما بدا لي أن أفق الحوار بين الاسلاميين والعلمانيين ما تزال ضبابية إن لم تكن مسدودة في الوقت الراهن.

يتساءل الكثيرون عن سر الإفراج عنك وعن الأربعة عشر الآخرين، لماذا أنتم وليس يحيى حسين عبد الهادي، أو حازم حسني أو عصام سلطان وسواهم؟

هذا سؤال مهم، طرحته على نفسي، وما زلت أطرحه، دون أن أتمكن من العثور على إجابة قاطعة ومقنعة عليه. ولأن الجهة التي اتخذت قرار اعتقالي هي نفس الجهة التي اتخذت قرار إطلاق سراحي، وأقصد بها الأجهزة الأمنية، فهي وحدها التي تملك الإجابة الصحيحة على هذا السؤال اللغز والمحير.

والواقع أنني كنت أعتقد أنني سأكون آخر من سيتم الافراج عنهم من رفاق الزنزانة، وذلك لأسباب عدة أهمها:

1- أنني كنت الوحيد الذي جرى تلويث سمعته والطعن في وطنيته في برنامج تليفزيوني شهير تم بثه مساء نفس يوم اعتقالي وتضمن تسجيلا لمكالمات تليفونية مسربة من الأجهزة الأمنية لم يكن لها من هدف سوى اغتيالي معنويا.

2- أنني كنت الوحيد الذي تم التحفظ على أمواله ومنع من التصرف فيها.

3- أنني كنت الوحيد الذي يجري نقله إلى جلسات تجديد الحبس في عربة “ترحيلات” خاصة محاطة بحراسة مشددة. لذا من الطبيع أن أتساءل، مثلك ومثل الكثيرين، عن أسباب الإفراج عني قبل حازم حسني وخالد داود، زميلي الزنزانة اللذين اعتقلا في نفس التوقيت ولم يتعرضا لنفس القدر من التشويه أو يمنعا من التصرف في أموالهما أو ينقل كل منهما في عربة ترحيلات خاصة وحراسة مشددة.

الواقع أنني كلما أمعنت التفكير في هذه المسألة أزداد اقتناعا بأن الإجابة الصحيحة لدى أجهزة الأمن وحدها، وهي أجهزة تبني قراراتها على تقييمات غامضة وحسابات تخصها وحدها ولا تخضع بالضرورة لأي قدر من العقلانية، كما نتصورها نحن على الأقل، بدليل:

1- الإفراج عن الأستاذ محمد خليل قبل شهر من الإفراج عني، وكنا جميعا نتصور أنه آخر من سيتم الافراج عنه من المتهمين في القضية 488، وهي نفس القضية التي اتهم ثلاثتنا فيها، خصوصا إذا احتكمنا إلى شواهد حبسه انفراديا ومنعه من التريض والزيارات لفترة أطول.

2- استمرار حبس المهندس يحي حسين حتى الآن بينما أطلق سراح كل من السفير معصوم مرزوق والدكتور يحي القزاز منذ شهور طويلة، رغم أن الثلاثة كان قد ألقي القبض عليهم في فترات متقاربة. ويلاحظ هنا أن عدد المجموعة التي تم الإفراج عنها معي لم يتجاوز 15 شخصا، بينما بلغ عدد من أفرج عنهم مع كمال خليل أكثر من 120 شخص، منهم من ظل معتقلا ما يقرب من عامين ومنهم من لم لم تتجاوز فترة اعتقاله عدة أشهر.

وفي تقديري، استنادا إلى التحليل وليس إلى أي معلومات موثقة، أن عوامل عديدة ربما تكون قد أسهمت في الإسراع بالإفراج عني مع هذه “الدفعة”:

1- حالتي الصحية بالنظر إلى سني المتقدم نسبيا، مقارنة بزميلي الزنزانة. ومن المعروف أن زوجتي الغالية، وهي أستاذة في جامعة بينها والرئيس الأسابق لقسم الاقتصاد بها، كانت قد شعرت بقلق كبير ولم تكتف بمخاطبة النائب العام ورئيس المجلس المصري لحقوق الانسان وإنما ذهبت بنفسها لمقابلة مساعد وزير الداخلية لشنون السجون وحملته مسؤولية ما قد يترتب على تفاقم هذه الحالة.

2- ردود الفعل القوية الصادرة عن مؤسسات دولية وإقليمية تعنى بالبحث الأكاديمي في مجال العلوم السياسية، خاصة وأن بعضها يتمتع بسمعة مهنية ومكانة دولية متميزة، لم تكتف بإصدار بيانات تنديد وإنما وجهت خطابات مفتوحة أو مغلقة إلى السيد رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء ووزير الخارجية والنائب العام ورئيس جهاز أمن الدولة للمطالبة بالإفراج عني وعن غيري من الباحثين والأكاديميين. وبهذا الصدد أود ان أتوجه بشكر خاص إلى كل من الرابطة الأمريكية لدراسات الشرق الأوسط، خاصة البروفيسور لوري براند، والصديق العزيز الدكتور سعد ناجي جواد، الرئيس الفخري للجمعية العربية للعلوم السياسية.

هل تم اشتراط أمور ما للإفراج عنكم؟

أؤكد لك أني لم التمس الافراج عني من أي جهة، ولم يساومني أحد على شروط الإفراج عني، وليس بوسع أحد أن يفرض علي شروطا لا يقبلها ضميري الإنساني أو المهني، ولم أوقع لأحد أو لأي جهة كانت على أي تعهد يلزمني بالقيام او الامتناع عن القيام بأي شيء على الإطلاق.

وعلى أي حال فإن كل ما سعيت إليه في الماضي وسأظل أتمسك به ما حييت هو أن تتاح لي الفرصة للتعبير عن رأيي بحرية. فالأجهزة الأمنية تعلم تماما أن قلمي هو سلاحي الوحيد الذي لا أملك غيره.

وعلى اي حال فإنني أحاول أن أجتهد في عرض رأيي بأسلوب علمي قدر الإمكان ودون أي نوع من التشنج أو الانفعال أو شخصنة القضايا. وإذا لم يكن هذا المطلب المشروع، أي تمكيني من الادلاء برأي والمشاركة في النقاش العام، متاحالي في بلدي الذي أعمل فيها أستاذا للعلوم السياسية، فلن يكون أمامي سوى الاستقالة من الجامعة وقضاء ما تبقى لي من عمر في القرية التي ولدت فيها. فأنا مصر كل الإصرار أن أبقى في بلدي وأن أعيش وأموت فيه، ولا أريد لنفسي أبدا أن أكون معارضا من الخارج، مع احترامي لهم جميعا.

قلت إنك رأيتَ مصر الأخرى في السجن كيف كانت؟

أتيح لي أن أشاهد، خاصة أيام تجديد الحبس والعرض على النيابة أو على غرفة المشورة كما سبقت الإشارة، معتقلين من كل الأعمار: أطفالا تتراوح أعمارهم بين 15-18 سنة وشبابا تتراوح أعمارهم من 20-45 سنة وشيوخا تزيد أعمارهم على 60 عاما وتقترب أحيانا من الثمانين عاما.

كما أتيح لي أن التقي خلال المرات الكثيرة التي وجدت نفسي فيها في “الحبسخانة” وأن أتحاور مباشرة مع رموز من كل الأعمار ومن كل التيارات والأحزاب والحركات السياسية، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار ومن الإسلاميين والعلمانيين، واكتشفت أن هناك معتقلين بالمئات قال بعضهم صراحة إنه لا علاقة له بالسياسة ولم يمارسها في يوم من الأيام ولا حتى يدرك معناها.

وقد تم اعتقال بعض هؤلاء لأسباب غريبة وأحيانا مضحكة، احيانا لأن بعض الأقارب يمارس نشاطا سياسيا وأحيا أخرى لأنهم تواجدوا مصادفة في نفس أو بالقرب من أحد الأماكن التي شهدت بعض مظاهرات يوم 20 سبتمبر، وسمعت من عدد محدود منهم عن عمليات تعذيب وحشي قالوا إنهم تعرضوا له أثناء تواجدهم في مقار الاحتجاز التابعة للأمن الوطني، لكن الأمانة تقضي أن أشير في الوقت نفسه إلى أنني لا أستطيع التحقق من مدى صحة أو مصداقية ما سمعت وليست لدي الوسيلة لذلك.

لذا بدت لي مصر من من خلال تجربة الاعتقال والسجن وكأنها منشطرة إلى نصفين: نصف معتقل داخل السجون ومعزول عن العالم والنصف الآخر خارج السجون يعيش حياة تختلف في طبيعتها عن كل ما مر به من قبل. ولأنني كنت في ذلك الوقت أنني أنتمي إلى مصر المسجونة، فقد خيل إلى أن القابعين داخل السجن هم الأقرب للتعبير عن ضمير الوطن وعن أحلامه.

عاصرت عهود السادات ومبارك وما بعدهما، ما الذي تراه -كعالم سياسة -مختلفا فيما يخص طريقة التعامل مع السياسيين وأصحاب الرأي في عهود الحكام المتتالية منذ عبد الناصر؟

كنت خارج مصر طوال معظم فترة حكم السادات، فقد توجهت إلى فرنسا للدراسة في يوليو عام 1970، أي قبل وفاة الرئيس عبد الناصر بحوالي شهرين، وعدت منها بعد حصولي على شهادة الدكتوراة قبل يوم واحد من الزيارة المشؤومة إلى قام بها السادات إلى القدس في نوفمبر عام 1977، ولم أبدأ في ممارسة النشاط العام والكتابة المنتظمة في الصحف إلا في بداية فترة حكم مبارك.

ولا شك أن كتاباتي طوال الأعوام الأربعين الماضية، أي طوال فترات حكم مبارك وطنطاوي ومرسي ومنصور وأخيرا السيسي، لم يكن لها سوى هدف واحد وهو التعبير عن وجهة نظري الشخصية، كمواطن وكمتخصص في العلوم السياسية، والمساهمة في النقاش العام حول مختلف القضايا الداخلية والخارجية، وأزعم أنني تعاملت مع جميع أنظمة الحكم التي تعاقبت على مصر طوال تلك الفترة الممتدة، استنادا إلى نفس المقاييس والمعايير الأكاديمية والأيديولوجية والسياسية والقيمية، كما أزعم أن كتاباتي لم تتلون أبدا مع التحولات التي طرأت على هذه النظم، حيث كنت شديد الحرص على عدم الارتباط فكريا أو تنظيميا بأي من المؤسسات الرسمية القائمة، سواء كانت أنظمة حاكمة أو أحزاب وقوى سياسية.

ولم يعكس هذا الموقف المبدئي من ناحيتي أي نوع من التعالي بقدر ما عكس حرصا شديدا على استقلالي الفكري والسياسي، ولدي قناعة تامة بأنني تفاعلت مع الجميع وفق قناعاتي الشخصية ولم اسمح لأحد أبدا، سواء كان مؤسسة رسمية أو غير رسمية أن يشتريني أو يطويني تحت جناحه أو بخيفني أو يجبرني على الصمت، وكان حرصي على استقلالي أقوى من كل محاولات الترغيب أو الترهيب.

تجدر الإشارة هنا إلى أن الانتقادات التي وجهتها للعديد من سياسات مبارك الداخلية والخارجية لم تحل دون حصولي في عهده على جائزة الدولة للتفوق في العلوم الاجتماعية، وقد سلمني الرجل بنفسه هذه الجائزة المرموقة.

هذا لا يعني أنني كنت من المقربين من نظامه أو حصلت في عهده على مزايا خاصة، فأنا أعلم تماما أن الرجل كن يضيق بكتاباتي، خاصة ما تعلق منها بمشروع التوريث، ولم يتردد في تسليط ابواقه وأجهزته الإعلامية لمهاجمتي بعنف (طالع مقالات عبد الله كمال في روزاليوسف على سبيل المثال خلال السنوات الخمس الأخيرة من حقبة مبارك)، بل وراحت أجهزته تضيق الخناق علي في رزقي حتى وأنا خارج الوطن، حين كنت أعمل أمينا عاما لمنتدى الفكر العربي في الأردن مع سمو الأمير الحسن ولي عهد الأردن، ما دفعني لتقديم استقالتي من هذا المنصب والعودة إلى مصر.

ومع ذلك أشهد أنني مارست الكتابة في عهد مبارك بحرية تامة، وكنت دائم الظهور على القنوات الفضائية، بما في ذلك القنوات المصرية الرسمية، ولم أكتف بالكتابة النقدية ولكني مارست في عهده نشاطا سياسيا من خلال دوري كمنسق عام للحملة ضد التوريث ثم كمنسق عام للجمعية الوطنية للتغيير. لكنني أبدا لم أعتقل أو أسجن في عهده.

وحين تغير المناخ السياسي السائد في مصر عقب اندلاع ثورة يناير ونجاحها في إسقاط مبارك، لم تتغير علاقتي بالقيادات التي تصدرت المشهد السياسي عقب الثورة رغم دوري البارز فيها، باعتراف الكثيرين.

صحيح أنني اخترت عضوا بالمجلس الاستشاري الذي شكله المجلس العسكري الذي تسلم السلطة عقب رحيل مبارك، غير أن هذه العضوية لم تكن وظيفة رسمية مدفوعة الأجر، وجاءت بترشيح من عمرو موسى وليس من أحد من أعضاء المجلس العسكري، ولم أتردد في تقديم استقالتي حين تبين لي أن دور المجلس الاستشاري كان شكليا وأنه استخدم كغطاء لتمرير سياسات لا تخدم أهداف ثورة يناير.

ولأن أكثر ما كنت أخشاه خلال تلك الفترة الحاسمة من تاريخ مصر السياسي هو حدوث استقطاب حاد بين التيارات الإسلامية يضر الثورة ويفتح الباب أمام المحاولت الرامية إلى إجهاضها، فقد بذلت أقصى ما أستطيع من جهد للحيلولة دون حدوث هذه الحالة الاستقطابية، الأمر الذي عبرت عنه آرائي ومواقفي السياسية خلال تلك الفترة.

أذكر أنني كتبت في أحد المقالات التي نشرت قبيل الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية قائلا:”أن اسوأ سيناريو يمكن أن تواجهه مصر هو أن تجد نفسها مضطرة للاختيار في الجولة الثانية بين محمد مرسي وأحمد شفيق، ولم أتردد في الإعلان عن عزمي التصويت لصالح عبد المنعم أبو الفتوح في الجولة الأولى، ولم أذهب للتصويت في الجولة الثانية أو في أي انتخابات أخرى جرت بعد ذلك أبدا. وعندما فاز مرسي الذي لم أصوت له، كنت ضمن كثيرين عبروا عن رغبتهم في احترام إرادة الناخبين واشترطوا للتعاون معه أن يتصرف في حال إعلان فوزه كرئيس لكل المصريين.

وعندما تبين من تصرفاته بعدما نصب رئيسا أنه ينفذ المشروع السياسي للجماعة أكثر مما يعبر عن روح ثورة يناير، بدأت لهجتي الناقدة لسياساته تتصاعد، خاصة بعد قيامه بتعيين هشام قنديل رئيسا للوزراء، ثم إقدامه على إصدار إعلان دستوري جمع بمقتضاه كافة السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، ووصلت لهجتي المعارضة ذروتها عقب مؤتمر “نصرة سوريا”” الذي بدا لي وكأنه يأخذ مصر كلها إلى المجهول.

لذا لم أتردد في إعلان تأييدي لحركة تمرد ووقعت على بيانها المطالب بانتخابات رئاسية مبكرة علنا وأمام كاميرات التليفزيون، كما عبرت عن تأييدي لخارطة الطريق التي أعلنت يوم 3 يوليو، خاصة وأن هذه الخارطة تحدثت عن مصالحة وطنية وعن انتخابات برلمانية قبل الانتخابات الرئاسية، إلى جانب أمور أخرى كثيرة.

وحين تولى عدلي منصور إدارة المرحلة الانتقالية وتم تعيين الدكتور البرادعي نائبا للرئيس والدكتور الببلاوي رئيسا للوزاء شعرت ببعض التفاؤل حول إمكانية إنقاذ الثورة وإعادة تصحيح مسارها، غير أنه راح يتبدد تدريجيا مع كل انحراف عن خارطة الطريق، ومن ثم راحت لهجة انتقاداتي تتصاعد، خاصة إبان الانتخابات الرئاسية التي جرت عام 2014 والتي بدت لي أقرب إلى الاستفتاء. وبعد وصول السيسي إلى السلطة، ورغم حرصي الشديد على أن تأتي انتقاداتي في عهده متأنية ومدروسة بعناية ومعتدلة النبرة قدر الإمكان، إلا أنه لم يكن بمقدوري ابدا أن أحتفظ بهذا المستوى من الهدوء عند التنازل عن جزيرتي تيران وصنافير أو أن أتجاهل الطريقة المعيبة التي جرت بها الانتخابات الرئاسية عام 2018 أو أن أعلن تأييدي للتعديلات الدستورية التي جرت في بداية 2019..الخ.

وحين تم منعي من الظهور على القنوات الفضائية ومن الكتابة في الصحف المصرية، وجدت في وسائل التواصل الاجتماعي وفي القنوات الفضائية والصحف العربية وسائل بديلة للتعبير عن وجهة نظري.

لكنني كنت رغم ذلك شديد الحرص في الوقت نفسه على أن تبقى معارضي للسياسات المتبعة موضوعية قدر الإمكان وألا تتحول إلى خصومة شخصية مع أحد، لا مع النظام ولا مع القوى السياسية المتنافسة على الساحة. ومع ذلك، فقد راح النظام الحاكم يضرب بعنف وبعصبية وفي كل الاتجاهات.

ورغم عدم استبعادي لإقدامه على اتخاد إجراءات انتقامية ضدي، إلا أنني لم أتوقع أن يصل الأمر إلى حد إلقاء القبض علي والزج بي في غياهب السجن، ولم تتغير هذه القناعة إلا حين تم إلقاء القبض على رئيس أركان الجيش المصري لمجرد أنه عبر عن رغبته في خوض الانتخابات الرئاسية، فبعدها لم أعد استبعد اي شيء.

ومع ذلك لم يكن أمامي سوى الاختيار بين واحد من بديلين كلاهما مر: تقديم استقالتي من الجامعة والهجرة إلى الخارج كما فعل البعض، أو البقاء في الداخل والصمت إلى الأبد. لكنني قررت أن أختار بديلا ثالثا وهو أن أبقى في وطني الذي قررت أن أعيش وأموت فيه وأن أصر على المشاركة برايي من الداخل مهما كان الثمن.

كيف ترى آلية الحبس الاحتياطي ضد السياسيين وأصحاب الرأي في مصر من واقع تجربتك؟

آلية الحبس الاحتياطي موجودة ومعمول بها في كل النظم السياسية والقانونية، بما في ذلك أكثر النظم ديمقراطية، ولكن كإجراء احترازي لضمان استكمال التحقيقات وسد منافذ الهروب أو التلاعب أو الإفلات من العدالة، ويجب أن تراعى عند تطبقها ضوابط صارمة تضمن استكمال التحقيقات بالطريقة التي تفضي إلى العدالة وتؤدي إلى تأمين سلامة الدولة والمجتمع مع تمكين المتهم في الوقت نفسه من التمتع بكافة حقوقه وضمان أن تكون محاكمته عادلة تماما.

غير أن آلية الحبس الاحتياطي في مصر، وفقا للقانون المطبق حاليا وكذلك الممارسات المتبعة من جانب أجهزة الأمن ونيابة أمن الدولة، تحولت ليس فقط إلى عقوبة وإنما ايضا إلى أداة للتنكيل الوحشي بالمتهمين دون أي ضمانات بمحاكمة عادلة.

فقانوني الإرهاب والاجراءات الجنائية يمنحان النيابة، خاصة نيابة أمن الدولة، الحق في إلقاء القبض على أي شخص لمجرد وجود شبهات يتضمنها اي بلاغ كيدي، ويتيح لها إمكانية تجديد الحبس الاحتياطي عشر مرات لمدة 15 عشر يوما في كل مرة، أي لمدة تصل إلى 150 يوما، ثم يعرض المتهم بعد ذلك على غرفة مشورة يحق لها تجديد الحبس عدة مرات لمدة 45 يوما في كل مرة، إلى أن تصل مدة الحبس الاحتياطي إلى حدها الأقصى أي عامين.

الأدهى من ذلك أن بعض المعتقلين من أصحاب الرأي وجدوا أنفسهم أحيانا، وبعد أن قضوا مدة الحبس الاحتياطي كاملة وقررت غرفة المشورة الافراج عنهم، يعاد اعتقاليهم ويتم “تدويرهم” على الفور في قضايا أخرى لتبدأ عجلة الحبس الاحتياطي في الدوران من جديد، ربما إلى ما لا نهاية. وهذا نظام ظالم لا يمت للعدالة بصلة.

كيف ترى اجراءات السلامة الصحية والتغذية والرعاية الطبية بسجن طرة الذي أودعت فيه ومدى اكتظاط السجن ؟هل يعرض هذا السجناء والمحبوسين احتياطيا لخطر تفشي وباء كورونا ؟

لا أستطيع أن أحكم على الأوضاع في سجن ليمان طرة ككل لأن به عنابر كثيرة ولكل عنبر نظام ووضع خاص من حيث عدد وحجم الزنازين. ويبدو أن العنبر رقم واحد، والذي أقمت فيه مع زميلي طوال الفترة التي قضيتها في الحبس، هو عنبر متميز نسبيا، وكان ينزل فيه، بالإضافة إلى السياسيين الذين ذكرت أسماءهم من قبل، قضاة ووكلاء نيابة وضباط، بل ومحافظ سابق.

فكل زنازين هذا العنبر تحتوي على دورة مياه أفرنجية ومزودة بالكهرباء والمياه الساخنة ولا تتسع لأكثر من ثلاثة أسرة، كل منها عبارة عن لوح من الصاج ويسمح لكل نزيل ببطانيتين، ولم تكن هذه الأسرة مزودة في البداية بمراتب، لكن سمح لنا في مرحلة متأخرة ببطاطين إضافية ثم بمرتبة سمكها 5 سم.

وقد أصبت في الفترة الأولى بالتهاب في الأعصاب وبتمزق في الكتف، بسبب اضطراري للصعود والنزول من وإلى سريري العلوي. أما بالنسبة للتغذية فقد مررنا بفترة صعبة في البداية حين كانت الزيارات الخاصة ممنوعة ولم يكن يسمح لنا باستخدام الأموال المودعة لدى امانة السجن، وبعد السماح بالزيارات وباستخدام هذه الأموال المودعة، أي بعد حوالي شهر من بداية الحبس، أصبحنا نعتمد كليا على الطعام الذي نتحصله ايام الزيارات أو نشتريه من الكافتريا، ولم نكن نستخدم من طعام السجن سوى بعض الأشياء البسيطة كالبصل والجزر والطماطم..الخ.

وفيما يتعلق بالرعاية الصحية، تبدو مستشفى السجن محدودة الإمكانيات، بالنظر إلى حجم الطلب على الخدمات الصحية من جانب أعداد كبيرة من المسجونين في منطقة طرة، ولا تتوافر في صيدليتها الوحيدة أدوية تكفي احتياجات هذا العدد الكبير، لكن كان يسمح للجميع بالتزود بالعلاج اللازم من الخارج على نفقتهم الخاصة.

وفيما يتعلق بالأخطار المحتملة التي قد تنجم عن وباء الكورونا، أعتقد أنها حقيقية، خاصة بالنسبة للسياسيين المحبوسين في زنازين كبيرة، حيث الحيز المتاح لكل سجين لا يتعدى عرضه أحيانا 45 سم، لكني لم أر بأم عيني أو أدخل زنازين من هذا النوع.

وإذا صحت هذه المعلومة فإن احتمالات نقل عدوى الفيروس تصبح كبيرة جدا. صحيح أن المسجونين لا يحتكون بالعالم الخارجي، لكن أطقم الحراسة من ضباط وجنود وأطباء وممرضين يحتكون بهذا العالم ويبيتون بالتناوب في منازلهم.

هل تعتقد أنه ستكون هناك موجات افراج اخرى عن معتقلي الرأي تالية لدفعة الخمسة عشر التي كان بينها؟

أعتقد ذلك، فدفعة الخمسة عشر سبقتها موجات كثيرة والأرجح أن تلحق بها موجات أخرى، لكن ليس بوسع أحد أن يعرف متى وكيف وكم سيفرج عنهم في المرة القادمة. فالموجات السابقة لم تكن منتظمة الإيقاع أو متساوية الأعداد.

ويخضع توقيتها وعدد المفرج عنهم في كل مرة لحسابات الأجهزة الأمنية وحدها، وهي حسابات غامضة ولا تخضع لمعايير محددة أو لمنطق معروف، وبالتالي فإن أي حديث حول هذا الموضوع سيكون من قبيل الاجتهاد أو التحليل، وبالتالي مجرد كلام مرسل لا يستند إلى معلومات موثقة.

ماذا تتوقع لعالم ما بعد كورونا وتأثيره على النظم السلطوية والحريات ؟

في تقديري أن تأثير هذا الوباء سيكون شاملا ولن يقتصر على النظم السلطوية أو على الدول الفقيرة وإنما سيتأثر به الجميع، بصرف النظر عن طبيعة النظم السائدة أو درجة الغنى والفقر أو درجة التقدم والتخلف، ولن تكون النظم الديمقراطية أو الدول الغنية بالضرورة وفي جميع الأحوال أكثر كفاءة في التعامل مع هذا الفيروس والسيطرة عليه.

وفي تقديري أن تأثير الوباء على موازين القوى العالمية وعلى هيكل النظام الدولي لن يقل عن تأثير الحربين العالميتين الأولى والثانية. لذا سيختلف شكل النظام العالمي الذي سيتشكل تدريجيا بعد مرحلة التغلب على الوباء عما كان عليه قبل انتشاره. وتلك على اي حال قضية متشعبة الأبعاد وتحتاج إلى تحليل أعمق لا يتسع له المقام هنا.

في أزمة الاعتقال، من وقف معك، ومن تخلى عنك؟ وماذا كان موقف جامعة القاهرة؟

لم آخذ مسألة اعتقالي أبدا على أنها قضية عاطفية أو شخصية، فاعتقالي وحبسي يشكلان قضية سياسية وقضية عامة في المقام الأول، وليس مسألة ذاتية أو شخصية. وكان تقديري وما يزال أن الثمن الذي دفعته، رغم فداحته على المستوى الانساني والنفسي، كان أهون إلى حد كبير مما دفعه كثيرون غيري. لذا أكتفي هنا بمجموعة من الملاحظات العامة:

الملاحظة الأولى: أن تناول الإعلام المصري لهذا الحدث كان مخجلا بل ومثيرا للاشمئزاز. فرغم قناعتي السابقة بأن هذا الإعلام يفتقر كليا إلى أي درجة من المهنية، إلا أنني لم أتصور ابدا أن يصل الأمر ببعض من يسمون أنسهم إعلاميين إلى هذه الدرجة من الابتذال. فقد باع هؤلاء أنفسهم رخيصا جدا وتحولوا إلى كلاب مسعورة تتوق للنهش في لحم البشر دون رادع قيمي أو أخلاقي ودون حياء.

الملاحظة الثانية: أن حجم التعاطف معي كمعتقل رأي كان في الخارج اقوى بكثير منه في الداخل. فالمؤسسات الدولية والإقليمية التي تعاطفت معي من خارج مصر كانت أكبر بكثير منها في الداخل، وكذلك الأفراد. لكني ألتمس العذر لمن يقيمون في الداخل، أفرادا كتانوا أم مؤسسات وأحزاب وقوى سياسية، بسبب مناخ القمع السائد وما يولده من خوف.

الملاحظة الثالثة: أنني كنت أخشى على زوجتي أكثر بكثير مما كنت أخشى على نفسي أو مما قد يحدث لي اثناء الاعتقال والسجن، خاصة وأنها تقيم وحدها بالمنزل. المفاجأة السارة هنا أن هذه الزوجة الوفية كانت أقوى وأصلب كثيرا مما قدرت، وهذه نعمة أحمد الله عليها كثيرا، لذا أنتهز الفرصة هنا لأتوجه اليها بتحية حارة وللتعبير لها عن عظيم حبي وامتناني.

الملاحظة الرابعة: أنه لم يصدر عن قسم العلوم السياسية، والذي شرفت برئاسته ثماني سنوات، وهي أطول مدة بعد استاذنا المرحوم بطرس غالي، أو عن مجلس كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، وقد شرفت بعضويته مرات عديدة، أو عن جامعة القاهرة، والتي أعتز دوما بالانتماء إليها، أية بيانات تستنكر اعتقالي، أو تطالب بالإفراج عني، أو حتى تستنكر ما حدث من انتهاك للحريات الأكاديمة، أو تدافع عن استقلال الجامعة. مع ذلك يفرض علي واجب الاعتراف بالجميل أن أقرر أن العديد من الزملاء والأصدقاء، من داخل الكلية وخارجها، كانوا دائمي السؤال عني والاستفسار الدائم من زوجتي عن أحوالي الصحية.

ولا يتسع المقام هنا لذكر أسمائهم جميعا، لكنني أود أن أستثني هنا زميلة وصديقة عزيزة هي الدكتورة هدى جمال عبد الناصر. فهي لم تكتف بالسؤال الدائم عني ومتابعة أحوالي الصحية باستمرار، أو بإرسال علبة شكولاته لي بمناسبة عيد ميلادي الذي يتوافق مع عيد ميلادها أو بشراء بطاطين، لكنها قامت أيضا بتوجيه رسالة إلى السيد رئيس الجمهورية للمطالبة بإطلاق سراحي. لذا اشعر تجاهها بامتنان لاحدود له.

المصدر: جريدة رأي اليوم

المصدر : قناة العالم .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى