عربي

هبَّةُ شعبٍ، لاحتضانِ شعب

وجومٌ وتعقّب، خوفٌ يعتري الصغير والكبير مضافاً إلى الهلع من تزايد كورونا وتدهور الوضع الاقتصادي في بلدٍ لم يعد يحتملُ هبوبَ ريحٍ على غصونِه الهشّة، فكيف بانفجارٍ سماه بعضهم انفجار هيروشيما تذكيراً بانفجار القنبلة النووية الأميركية في مدينة هيروشيما اليابانية في مثل هذه الايام منذ خمسة وسبعين عاماً.

– الأخبار الشرق الأوسط –

لم تمضِ ساعاتٌ على إعلان رئيس الحكومة بيروت مدينةً منكوبة، حتى بدأت المساعدات الدولية والعربية والإقليمية تحطُّ في مطار بيروت الدولي. إلا أن اللافت كان توالي سلسلةٍ من المشاهد من الجمهورية الإسلامية الإيرانية، أُرفِقَت بالمساعدات التي وصلت إلى المطار بسرعةٍ غير مسبوقة! مستشفى ميدانيٌّ كاملٌ متكاملٌ بتجهيزاته مع طاقمٍ طبيٍّ من الهلال الأحمر الإيراني. أطباء بثياب المهنة بانتظار وصولهم ساحةَ الخدمة؛ بيروت. آلاف الصناديق من المواد الطبية والأدوية والمستلزمات الصحية تعلوها يافطات كتب عليها “هدية من الشعب الإيراني إلى الشعب اللبناني العزيز”. تسعون طنّاً من المساعدات وجدت هذا الصباح سبيلها إلى المستشفيات والمراكز الصحية اللبنانية. والأقرب إلى الوجدان، شموعٌ تُضاءُ في ليلةِ وحشةِ بيروت على يدِ مواطنين إيرانيين، يتجمّعون بالكمامات عند باب السفارة اللبنانية في طهران مع مراعاة التباعد، وأمام المراكز الثقافية الدولية والمحلية في العاصمة (المركز الدولي، ارسباران،..)، وأمام مداخل المنتزهات التي تشتهرُ بها إيران (قيطرية، ساعي،..) وأكبر الحدائق العامة. منذ الغروب بدأ الناس بالتجمع في النقاط المركزية في طهران لإعلان التضامن وإطلاق صرخة الألم والتعاطف.

مسؤولون ووزراء ونواب عبروا عن استعداد بلادهم لتقديم أيّ نوعٍ من المساعدة، وكانت إيران قد أبدت استعدادها سابقاً لحلّ أزمة الكهرباء في لبنان، ووقفت متأهبةً للفعل وليس الكلام فحسب. لكن أمس، وبعد يومٍ حافل بالاتصالات الرسمية والبيانات ورسائل التعزية والتغريدات من عشرات الشخصيات الإيرانية والوزراء والرؤساء والقادة وأعضاء مجلس الشورى، حلَّ ظلامُ الليلِ ليضاءَ برجُ الحرية (آزادي) بعلم لبنان وعبارات “من إيران سلامٌ لبيروت”، و”لبنان ابقَ قوياً”، بينما صدحَ النشيدُ الوطني اللبناني في سماء طهران، وليضاء برج ميلاد الشهير بأرزة لبنان الخضراء وتطفأ كلُّ أنواره المعتادة التي تزيده تلألؤاً كلّ ليلةٍ من ليالي طهران، فتتلألأ الأرزةُ وحدها، مع عبارة “من طهران لبيروت سلاماً”. أما جسرُ الطبيعة، وهو أحد أكبر جسور الشرق الأوسط والعالم، والذي صممته مهندسة إيرانية، في أحد أكبر منتزهات طهران والشرق الأوسط، فقد تلوّنت أنوارُه بألوان العلم اللبناني، مما انعكس على لون السماء، فكان ليلاً أحمرا فيه الكثير من وجع بيروت وأهلها. شبابٌ وشابات إيرانيون يحملون العلم اللبناني في شوارع طهران أمس. كتّابٌ يتغنَّونَ بعروس الشرقِ وكأنّ لهم تاريخاً من حكاياتٍ معها.. شعراء نظموا أحلى القصائد في لبنان، فنالت صدىً واسعَ النطاق. صفحات الإيرانيين الشخصية في مواقع التواصل غصّت بصور الأرزة والحداد على ما حلّ بلبنان، وعبارات الدعم المعنوي من قبيل “ابق قوياً يا لبنان” و”من قلبي سلامٌ لبيروت” مع تأكيدهم على نشر هاشتاغ هذه العبارات على أوسع نطاقٍ ممكن فبلغت مسامعَنا، وأزعجت آذان العدوّ كما آذت بيروتُ بجمالها الحُسّاد كما قال نزار قباني في قصيدته “وكان جمالُكِ يؤذينا.. نعترفُ الآن بأننا لم ننصفكِ..”.

ربما كان متوقعاً هذا التعاطف الرسمي والتغطية الكاملة التي شهدناها سواءٌ في الإعلام الإيراني الداخلي أو السفارة الإيرانية في بيروت والمستشارية الثقافية الإيرانية في لبنان، غير أنّ ما فاجأ الشعب اللبناني حجم الاحتضان الكبير من قبل الإيرانيين لأهالي بيروت ولبنان عموماً.

وما فاجأنا نحن كلبنانيين نعيش في أحضان الجمهورية هو أننا حتى هذه اللحظة تتوالى الاتصالات من القاصي والداني ليسألوا عما إن كنا ومن يعرفون من الأصدقاء بخير. الكثير من الأصدقاء ظن أننا في لبنان ولم يعلموا أن الكثير منا رجع الى طهران -على متن طائرة ماهان التي كان حالها من حال بيروت الحبيبة: منكوبة، عندما تعمدت طائرتان حربيتان أميركيتان الطيران قرب الطائرة الايرانية ليتم استهدافها من الدفاعات الجوية السورية.  لا يفارقنا مشهد الأطفال والنساء في حالة من الخوف والهلع من خلف الزجاج  يفصل بين المغادرين والوافدين في مطار بيروت وهم في صدمة يصرخون “كنا رح نموت هاجمتنا طيارات حربية فلوا على البيت شو ناطرين”. ها أنا اليوم أرى تلك النظرة في عيون كل لبناني ألتقيه في طهران أو أتصل به عبر الانترنت لأهدئ من روعي قليلاً. الكل ليس على ما يرام في حين يأتي هذا النوع من المواساة والمحبة من الشقيقة إيران وأهلها ليطفئ حرقة القلب ويمد يد العون والمساندة بأشكالها المختلفة.

أمشي هنا في الشوارع وكأنني في قلب الحدث فلبنان حديث الساعة. في هذه الشوارع لا يعلم الباعة والناس أنني لبنانية لكن مشاعر المواساة والحزن و “لبنان سينهض حتماً” تصدح في أرجاء المدينة، وأنا شأني من شأن كل لبناني في ايران أفتخر بلبنانيتي وأتمنى لو كنت في بيروت لأكنس شوارعها وأتبرع بدمي لأبناء وطن لم يعرف معنى الاستسلام يوماً. لكن تعزيني قليلاً هذه الكلمات التي أكتب لعلها تترك أثراً طيباً وتعكس ما نراه هنا بأعيننا وما يلمس قلوبنا من مشاعر صادقة نابعة من قلوب شعب إيران العزيز.

ربما كانت هذه انتفاضةً حقيقيةً لنُصرة الشعب الذي سمع الإيرانيون عن مقاومته الكثير، وعرفوا الكثير عن طيبتِه وكرمِه وحسنِ ضيافتِه وحبّه للحياة، فكان ثقيلاً عليهم أن تنكسرَ عروسُ شرقِهم الجريح، فهبّوا للملمةِ جراحها بمروءةٍ ونخوةٍ ومحبة، لطالما عهدناها في الشعب الإيراني الذي عُرفَ بحكمته وبصيرته وإيمانه، وصبره الطويل.

/انتهى/

المصدر : وكالة تسنيم للأنباء .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى